أحمد الله تعالى ، وعليه أتوكل ، وبه أستعين .
من يرصد اهتمامات مؤسساتنا التعليمية في هذه الأيام ، فإنه يجدها مشغوفة بقضايا الإبداع والتفكير والاستراتجيات الحديثة ، ويرى أنها تستورد الأفكار والطرائق ، وتفعلها في المدارس دون النظر إلى محققاتها ، وهدفها أن ترتقي بالمعلم والطالب على حد سواء ، ومع ذلك لا يزال طريق الإصلاح بعيد المنال ، والجديد الذي لا نعلم مدى سلامته ، يرمى في المعترك المدرسي المرهق بما حمل من قوانين وتصورات سابقة ، فيربك العمل ، ويسبب تراكم الأنظمة والإجراءات ، حتى امتلأ الميدان التربوي بكثير من القضايا ، و بات الجميع يشتكي من كثرة غثائها الورقي ، ويكمن الخلل في غياب القرار السليم الذي يجب عليه أن يحدد ملامح خطته ، وأن يرسم أهدافه ،وأن يلغي قبل أن يقرر ، وأن يستشير قبل أن يعزم ، فركام القديم لم يبرح مكانه ، ولا يزال نافذ التطبيق جنبا إلى جنب مع المستحدثات ، حتى جمعنا عجائب المتناقضات ، ووصلنا إلى مفازة تاه فيها الجميع ، وأصبحت مدارسنا مرتعا للتجارب والإحصاءات المعقدة التي صرفتها عن مراعاة أبسط المبادئ التربوية والتعليمية .
و ( النظرية السلوكية ) التي ظهرت وبدأت في الانتشار منذ خمسينيات القرن العشرين أصبحت ركاما قديما نجتر آثاره ، وربما منعنا من تغييره زيف الانتشار العالمي الذي حققته ، وما ألفه الباحثون المهتمون من الكتب التي تشرح قوانينها وتطبيقاتها ، وبهذا هيمنت على تفكيرنا ،كما هيمنت على صياغة طرق التعليم ، واحتكرت تفسير سلوك المتعلمين وتعديله وتقييمه ، وفق المعايير الموضوعية و المقاييس الكمية التي تنادي، بل زادت عن ذلك بأن (احتكرت مسمى العلمية) (الإرشاد والتوجيه النفسي حامد زهران108) حتى تخرج أي مفهوم آخر عن معنى العلم . ويغلب على الظن أنها دخلت حيز التطبيق في مؤسساتنا التربوية منذ ما يقرب من نحو ثلاثة عقود ، فأصبحت جزءا مهما داخل منظومة من القوانين النفسية ، يتلقاها الدارس في الكليات التي تعنى بإعداد المعلمين ، ويسمى بعد ذلك ( معلما تربويا ) !.
والنظام السائد في مدراس التعليم العام يجزم بأنها تحمل المعايير الصحيحة التي تساعد على فهم السلوك وقياسه ، ويحفل بما لديها من الاستراتجيات التي يرى أن فيها عصى موسى القادرة على التغيير ، وبناء على هذا الاعتقاد فرض على المعلمين طريقة إعداد الدروس وفق قواعدها ، وعلى المرشدين دراسة الحالات وفق نهجها ، ولا تكاد تخلو دورة تدريبية في مراكز التدريب التربوي من الإشارة إليها ، أو إعادة مفاهيمها ، حتى تجرد الجميع من التفكير، فالمعلم مثلا لا يستطيع أن يكتب تحضير دروسه كما يشاء ، فالنظرية تدخلت في الطريقة ،وألزمته بكتابة الأهداف التي صنفها السلوكي ( بلوم ورفاقه ) (1956م) إلى ثلاث مستويات ( معرفي - حركي - وجداني ) يتبعها مجموعة من الخطوات المكررة ، التي لا يحق للمعلم أن يحيد عن سبيلها ، فيكرر ذلك الإعداد الكتابي كل سنة ، ولا برفع عنه مهما اكتسب من خبرات ، أو تقادمت به السنين ، وأي قتل للإبداع مثل هذا ؟! ولكي يخرج المعلمون من مأزق التكرار أصبحت تلك التحضيرات جاهزة في أدوات التخزين الحاسوبية ، ومواقع الانترنت التعليمية ، وقد اعتبر بعض المغرمين بالنظرية ذلك التحضير الجاهز إشكالية ، وما هو في الحقيقة إلا هروب من التحكم و التكرار الذي لا نفع من وراءه .
وكان من الأولى أن يترك للمعلم فرصة حتى يكون نسيج نفسه ، وأن تمنح له الحرية في كتابة درسه وإعداده وإلقاءه ، وتلك الحرية هي عين الإبداع الذي ما فتئت الوزارة تقيده وتقننه ، فتقتله من حيث تعتقد أنها تحييه ، وتنفر منه من حيث تظن أنها ترغب فيه ، وأما الذين يجادلون عن طريقة السلوكيين في رسم الأهداف من أجل قياسها ، فنقول لهم يكفي أن يكتب المعلم أهدافه التربوية والتعليمية في إطار عام في أول السنة أو الفصل الدراسي ، ويسعى لتحقيقه طيلة العام الدراسي ، فيتضح الطريق نحو الهدف له ولمشرفه التربوي ، و المتابعة الميدانية والاختبارات النهائية هي موطن القياس الحقيقي ، وذلك خير من التجزئة السطحية للسلوك ، التي توهم بإمكان تحقيقها بكل بساطة في خلال خمس وأربعين دقيقة ، وأما معلومات الدرس التي تصاغ كأهداف ، فذلك تحصيل حاصل يحصل بالسجية ، ولا يحتاج إلى هذا التحكم في طريقة تدوينه . و (النظرية البنائية) التي تكتسح المدارس الغربية اليوم ( تقوم على صياغة الأهداف التعليمية في صورة مقاصد عامة ، تحدد من خلال مفاوضة اجتماعية بين المعلم والطلاب ) (انظر التعلم والتدريس من منظور النظرية البنائية ، د زيتون ) ، وليس في هذا دعوة تفضيل هذه النظرية على تلك ، لأنني لا أحبذ التبعية العمياء ، ولكن (البنائية ) تحترم العقل ، إذ يشعر المعلم بحرية باتخاذ القرار ، ويشعر الطالب أنه شريك في رسم الهدف .
والمتحقق منه أن المتابع يمكنه أن يرصد عدم فاعليتها في التطبيق التربوي ، لا في مجال التحصيل العلمي ، ولا في مجال الأخلاق والقيم ، ولم يكن عدم فهم قوانينها سببا في تدني بعض مستويات المعلمين ، وفي الوقت ذاته لم يكن لها من فضل في إبداع المبدعين منهم.
وتلك المدرسة الفكرية لم تسلم من العيوب والانتقادات التي تصاعدت وتيرتها في السنوات الأخيرة ، مما قلل من أهميتها في مؤسسات التربية الغربية ، خصوصا بعد أن بدأت (النظرية البنائية) - التي أشرنا إليها- وغيرها من المفاهيم تشق طريقها للظهور وتأخذ محل الاهتمام والتطبيق . وحري بنا - والحديث عن التطوير يملأ الساحة – أن نستعرض تصورات منظريها ، ونلم بعقائدهم الفكرية التي انطلقوا منها ، وأن نتعرف بعد هذا الاستهلاك الطويل على مدى نفعها للدارسين في كليات إعداد المعلمين مع ما يترافق معها من نظم تربوية أخرى ، فهل كانت حقا تعدهم معلمين فاعلين مقتدرين ، أم أنها قشور فكرية كان عليهم حفظها ثم استصحاب تعليماتها في مسيرتهم التربوية ؟ والتطوير لن يبدأ إلا عندما نفتح آفاق الحوار حول قضايا الفكر التربوي الذي ننطلق من خلفياته ، وأما ما يجري في الميدان من تعديلات وإضافات سطحية يتعلق أغلبها في تغيير عمليات التقويم فلن يغير من الحقائق شيئا ، ولا سبيل إلا إلى غربلة كاملة ، تبدأ من النظر الحصيف الناقد لحقائق النظريات المستوردة ومن ثم استبدالها بالنافع المفيد ، إذ أن أبواب الحديث عنها لا تزال موصدة ، وكأنها من المسلمات ، ومن هنا نبدأ بطرق باب الفكر السلوكي ، لعلنا أن نكتشف بعض حقائقه التي غفل عنها البعض ، وغابت عن آخرين .
فأرباب هذه المدرسة انطلقوا تحت مظلة الاتجاه المادي الذي لا يؤمن إلا بالمشاهد المحسوس ، فهم لم ينظروا إلى الإنسان ككائن حي مكرم له خصائصه التي ينفرد بها عن الكائنات ، في مشاعره وتفكيره وحاجاته ، بل نظروا إليه كما ينظرون إلى المحركات الآلية ، التي يمكنهم أن يغيروا سلوكها واتجاهاتها . فهم لم يميزوا بين الكائنات الحية والمادة ، وعلى ذلك لم يميزوا بين الكائنات الحية ذاتها . فصاغوا قوانينهم التي أرادوها للإنسان من خلال التجارب على الحيوانات ، فوضع ( ثورديك ) (1949م) قانون (المثير والاستجابة) بعد تجاربه على القطط ، وتوصل ( بافلوف ) (1936م) إلى قانونه المسمى ( بالتعلم الشرطي ) بعد تجاربه على الكلاب ، و( سكينر) صاغ قوانينه بعد تجاربه على الفئران والحمام .
ولغلبة تأثير الفلسفة المادية على تفكيرهم ، أخذوا في محاولة التعرف على كيفية حدوث التعلم ( ماديا ) وهو أمر لو صحت نتائجه فإن المعلم في غنى عن فهم تفسيراته المعقدة وتفاعلاته الكيميائية داخل جسد الإنسان ، فشرع (ثورديك) يدرس علم وظائف الأعضاء ،و يجري التجريب بعد التجريب، من أجل أن يصل إلى تفسير عضوي ( فسيولوجي ) يتوصل من خلاله إلى معرفة رقي تعلم قططه ، (فادعى أن التعلم أو تعليم السلوك هو في النهاية تغيير في الخلايا العصبية ... فمن خلال الاقتران المستمر بين المثير والاستجابة ينتج عن ذلك نمو مستمر في الوصلات العصبية داخل الدماغ) ( النظرية التربوية وأصولها الفلسفية ،محمد سيف الدين ص 126) ، وهذا التفسير القاصر لم يجد له مستند علمي يرسو عليه . ومن هنا يمكن نقد ذلك بالقول : هل تصل دراسة سلوك الإنسان وتفسيره إلى هذه السطحية بحيث لا ننظر إلا إلى مدى استجاباته الغريزية العضوية ( الفسيولوجية ) كالجوع والعطش للمثيرات التي وضعوها ؟ .ونحن هنا لسنا بحاجة إلى تفصيل بديهيات الفرق بين سلوك الحيوان الذي ليس فيه أي استبصار و سلوك الإنسان الذي له دوافع عقلية وروحية واجتماعية ، ويكفينا قوله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )( سورة التين:4)، وقوله تعالى (ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (سورة الإسراء:70 ).
وقد اعتمد السلوكيون ( المنهج التجريبي ) كمنهج علمي في دراساتهم النفسية ، قياسا على استخدامه في العلوم الطبيعية ، ولا ريب أن هذا المنهج قد حقق نجاحا كبيرا في فهم الطبيعة ووضع المقاييس الكمية في تفسير ظواهرها ، لكنه مازال مخفقا وإلى مالا نهاية في وضع قوانين ثابتة يمكنها أن تفسر وتقيس الظواهر الإنسانية والاجتماعية تفسيرا علميا واقعيا ، ولذلك أبطل نجاحه في العلوم الإنسانية كثير من الباحثين .
والثقة العمياء بهذا المنهج ، جعلت المدرسة السلوكية في أمريكا على يد (واطسون) تقوم بثورة على الشعور والاستبطان ، بحجة أن هذه الأمور لا يمكن قياسها ، وركزت على موضوعية علم النفس باعتباره السبيل الوحيد لمعرفة السلوك وضبطه ، بل ذهب أيضا إلى إنكار أن للإنسان دوافع داخلية توجهه ، وما سلوكياته إلا صدى واستجابة للمثيرات الخارجية ، وهو يتوافق مع المذهب الجبري الذي يرى أن الإنسان ليس له مشيئة ، وهذا يخالف الاعتقاد السائد بأن للإنسان مشيئة ومقصد ونية تؤثر على سلوكه الخارجي ، قال تعالى ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) ( التكوير:28). وهذا الموقف السلبي من الاستبطان ، قاد المدرسة السلوكية إلى سلبية أخرى رصدها النقاد وهي : ( أن التعليم والإرشاد السلوكي الذي يقوم على هذه النظرية يركز على إزالة الأعراض الظاهرية بدلا من الحل الجذري للسلوك فيكون الحل حلا وقتيا) ( التوجيه والإرشاد النفسي ، ص 108).
ونتيجة لهذه التصورات التي يرون صحتها ، فقد خيل إليهم أن الإنسان يمكن أن يكون كما الآلة الصماء ، يستطيعون تحريكه كيفما أرادوا بقانون ( المثير والاستجابة )، ويظهر أنهم عندما فشلوا في تطويع آليات ومقاييس المنهج التجريبي لتساعدهم في فهم سلوك الإنسان ، قيدوا الإنسان بقيود غير صحيحة من أجل أن تتوافق مع المنهج . فكأن القضية ليست محاولة لفهم السلوك ومعالجته ، وإنما هي محاولة فرض منهج غير مناسب لتفسيره، وعلى ذلك سار كل أرباب المدرسة ، ويدل على ذلك ما ذهب (إليه كلارك هل) ( 1952م) (عندما اعتقد أن بإمكانه أن يحقق حلم السلوكية الأكبر وهو الوصول بعلم النفس إلى مصاف العلوم الطبيعة من حيث دقة الصياغة العلمية والاعتماد على المقاييس الكمية ) (التعلم ..أسسه ونظرياته، إبراهيم وجيه ص 182).
ولاشك في صحة استخدام المنهج التجريبي وفق قواعده الرياضية والكيميائية عندما نتعامل مع جسد الإنسان لكشف الأمراض العضوية وعلاجها ، أما جانبه النفسي و الروحي فإن ذلك أكبر في التعقيد من أن يخضع لتلك المقاييس ، وليس معنى هذا أن نقلع إقلاعا تاما عن محاولة تفسير الظواهر النفسية والاجتماعية للإنسان ، لكن ينبغي أن نتعامل معه بمنهج الفهم والاستبصار والملاحظة - رغم قصوره - لا بمنهج التجربة والاختبار المطبق على علوم المادة . فإن النفس الإنسانية أكبر من أن تحيط بها تجربة قاصرة يمكن تعميمها ، أو أن تفسر مشاعرها مقاييس كمية ، ولا يستطيع أحد أن يحيط بتفكيرها ومقاصدها إحاطة كاملة إلا الذي ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) ( غافر:19).
ويكفي السلوكيين سقوطا تبنيهم ما اعتقده (كلارك هل) الذي جعل نظرية التطور (لداروين) ( 1882م) أصلا من أصول نظرياته ، ( حيث فسر سلوك الكائنات الحية بأنه نتيجة توافق بينها وبين البيئة ، فلو نقلت بعض الكائنات الحية إلى بيئة غير بيئتها فإنها ستجد في بادئ الأمر صعوبة في التكيف معها ، ولكن مع مرور الزمن تأتي أجيال مختلفة عن الجيل السابق وتحذف الأجزاء غير الملائمة بينما تقوي الأجزاء التي تساعدها على البقاء والتكيف ، فيرتقي الكائن الحي إلى هيئة أخرى تجعله مختلفا عن أجياله السابقة ). ( التعلم أسسه ونظرياته ، ص 160 ).
بعد هذا يمكننا القول : إن تطوير التعليم يبدأ عندما نراجع النظريات التربوية والنفسية ، فالمرتكزات التي تقوم عليها ، والقوانين التي شكلتها تعد من الإشكاليات الخفية التي تعرقل أمنيات التطوير ، والمخرجات العلمية الناجحة تقوم على مدى إدراكنا لواقعنا الحقيقي ، والتعليم يسمو إذا نحن بدأنا في تأصيل طرقه وأساليبه وفق مفاهيمنا وقناعاتنا ، ويحتاج ذلك إلى الانفكاك من عقدة الاستيراد غير المرشد ، وإلى إيجاد جسور التواصل المستمر بين المنظرين والعاملين في الميدان الذين على أيديهم تتم عملية التعليم ، فالعلاج لمشاكل التربية لن يكون بإضافة مزيد من التنظيمات المربكة ، بل من الرجوع إلى المنطلقات الأولى .