عبادة
الإمام أبي حنيفة
عن
أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رحمه الله صلى العشاء والصبح بوضوءٍ أربعين سنة.
وعن
بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً
يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما
لم أفعله، فكان يحيي الليل صلاة وتضرعاً ودعاءً.
وعن المثنى بن رجاء قال: جعل
أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله
نفقة تصدق بمثلها.
وقال أبو عاصم النبيل: كان أبو حنيفة يسمى الوتد، لكثرة
صلاته.
وعن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبيه أنه صحب أبا حنيفة ستة أشهر قال:
فما رأيته صلى الغداة -أي: الصبح- إلا بوضوء عشاء الآخرة، وكان يختم كل ليلة عند
السحر.
وعن القاسم بن معن: أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى: {بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ويبكي ويتضرع
إلى الفجر.
وقال الفضل بن دكين وكنيته أبو نعيم: رأيت جماعة من التابعين وغيرهم
فما رأيت أحسن صلاة من أبي حنيفة، ولقد كان قبل الدخول في الصلاة يبكي
ويدعو.
وقالت أم ولد لـ أبي حنيفة، وأم الولد: أمة وطأها فأنجبت له، فالولد يكون
تبعاً لأبيه فيكون سيداً لا عبداً، فلو مات سيدها عتقت، وقد نهي عن بيع أمهات
الأولاد.
وقالت أم ولد لـ أبي حنيفة: ما توسد فراشاً بليل منذ عرفته، وإنما كان
نومه بين الظهر والعصر بالصيف، وأول الليل بمسجده في الشتاء.
وقال ابن أبي رواد:
ما رأيت أصبر على الطواف والفتيا بمكة منه، إنما كان كل الليل والنهار في طلب
الآخرة والنجاة، ولقد شاهدته عشر ليال فما رأيته نام بالليل ولا هدأ ساعة من نهار
من طواف وصلاة أو تعليم.
وعن سفيان بن عيينة قال: ما قدم مكة رجل في وقتنا أكثر
صلاة من أبي حنيفة.
ورع
الإمام أبي حنيفة
عن
عبد الله بن المبارك قال: قدمت الكوفة فسألت عن أورع أهلها فقالوا: أبو
حنيفة.
وقال مكي بن إبراهيم: جالست الكوفيين فما رأيت أورع من أبي حنيفة.
وعن
علي بن حفص البزار قال: كان حفص بن عبد الرحمن شريك أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يجهز
عليه -يعني: يرسل له بثياب وشريكه يبيعها- فبعث إليه رفقة بمتاع -والرفقة هم
الأصحاب- وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته فبين، فباع حفص المتاع ونسي
أن يبين، ولم يعلم لمن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع
كله.
سماحة
الإمام أبي حنيفة وكرمه
عن
قيس بن ربيع قال: كان أبو حنيفة رجلاً ورعاً فقيهاً محسوداً -يعني: لكثرة النعم
عليه- كثير الصلة والبر لكل من لجأ إليه، كثير الإفضال على إخوانه.
وعن حفص بن
حمزة القرشي قال: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة،
فإذا قام سأل عنه فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده، حتى يجره إلى مواصلته، وكان
أكرم الناس مجالسة.
اتباع
أبي حنيفة للسنة
عن
سعيد بن سالم البصري قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شيء فقال:
من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعاً؟ قلت: نعم، قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر،
ولا يكفر أحداً بذنب، قال: فقال لي عطاء: عرفت فالزم.
قال أحمد بن حجر الهيتمي
المكي: اعلم أنه يتعين عليك ألا تفهم من أقوال العلماء عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم
أصحاب الرأي أن مرادهم بذلك تنقيصهم، ولا نسبتهم إلى أنهم يقدمون رأيهم على سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على قول أصحابه؛ لأنهم براء من ذلك، فقد جاء عن
أبي حنيفة من طرق كثيرة ما ملخصه: أنه أولاً يأخذ بما في القرآن، فإن لم يجد
فبالسنة، فإن لم يجد فبقول الصحابة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن
والسنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم.
-يعني: أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين فلا
بد أن يكون الحق منحصراً في القولين، لا يكون هناك قول ثالث؛ لأن الحق لا يضيع في
الأمة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن أو السنة من أقوالهم ولم يخرج
عليهم.
ثم قال: فإن لم يجد لأحد منهم قولاً لم يأخذ بقول أحد من التابعين، بل
يجتهد كما اجتهدوا.
فكان رحمه الله لا يقدم رأيه على القرآن والسنة ولا على كلام
الصحابة إذا اتفقوا، وإذا اختلفوا فيتخير من أقوالهم الأقرب إلى الكتاب والسنة، وهو
أحد التابعين وإن كان من صغارهم فكان يجتهد ويقول: هم رجال ونحن رجال، لأنه ولد سنة
(80) هـ فهو قريب من عصر النبوة.
وقال الفضيل بن عياض: إن كان في المسألة حديث
صحيح تبعه، وإن كان عن الصحابة أو التابعين فكذلك، وإلا قاس فأحسن القياس.
وقال
ابن المبارك رواية عنه: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس
والعين، وإذا جاء عن الصحابة اخترنا ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين
زاحمناهم.
وعنه أيضاً: عجباً للناس! يقولون: أفتى بالرأي وما أفتى إلا
بالأثر.
وعنه أيضاً: ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى، ولا مع سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع ما أجمع عليه الصحابة، وأما ما اختلفوا فيه
فنتخير من أقوالهم أقربه إلى كتاب الله تعالى أو إلى السنة ونجتهد، وما جاوز ذلك
فالاجتهاد بالرأي لمن عرف الاختلاف وقاس، وعلى هذا كانوا.
يعني: فلا يجوز القياس
مع وجود النص؛ لأن القياس كأكل الميتة للمضطر، فإذا لم يوجد في المسألة نص من
الكتاب أو السنة فينظر في إجماع الصحابة، فإن كانت المسألة غير منصوصة فالقياس يلجأ
إليه عند الاضطرار، وكل قياس مهما كان حسناً من حيث النظر إذا صح الحديث بخلافه فهو
مردود بالقادح من مسمى فساد الاعتبار.
محنة
الإمام أبي حنيفة
عن
عبيد الله بن عمرو أن ابن هبيرة ضرب أبا حنيفة مائة سوط وعشرة أسواط في أن يلي
القضاء فأبى، وكان ابن هبيرة عامل مروان على العراق في زمن بني أمية.
وعن يحيى
بن عبد الحميد عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يخرج كل يوم -أو قال: بين الأيام- فيضرب
ليدخل في القضاء فأبى، ولقد بكى في بعض الأيام، فلما أطلق قال لي: كان غم والدتي
أشد علي من الضرب، فهو يبكي؛ لأنه يعلم أن والدته في غم من أجل أنه يضرب.
وعن
بشر بن الوليد قال: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء وحلف ليلين فأبى،
وحلف: إني لا أفعل، فقال الربيع الحاجب: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف، فقال:
أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، فهو أغنى مني يمكن أن يكفر عن يمينه، فأمر
به إلى السجن فمات فيه ببغداد.
وقيل: دفعه أبو جعفر إلى صاحب شرطته حميد الطوسي
فقال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يدفع إلي الرجل فيقول لي: اقتله أو اقطعه -يعني:
اقطع يده- أو اضربه ولا أعلم بقصته فماذا أفعل؟ فقال: هل يأمرك أمير المؤمنين بأمر
قد وجب أو بأمر لم يجب؟ قال: بل بما قد وجب، قال: فبادر إلى الواجب.
وعن مغيث بن
بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال:
لا أصلح، قال: كذبت، قال: قد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح إن كنت كاذباً، فإن
كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح، فحبسه.
وروى نحوها إسماعيل بن أويس عن
الربيع الحاجب وفيها قال أبو حنيفة: والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون
الغضب فلا أصلح لذلك؟ قال المنصور: كذبت بل تصلح، فقال: كيف يحل أن تولي من يكذب؟
وقيل: إن أبا حنيفة ولي القضاء، فقضى قضية واحدة، وبقي يومين ثم اشتكى ستة أيام
وتوفي.
وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري: لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات
بالسجن.
وقيل: سقي السم كما سيأتي.
شيوخ
وتلاميذ الإمام أبي حنيفة
شيوخه:
قال الحافظ روى عن عطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود إمام القراءات، وعلقمة بن
مرثد وحماد بن أبي سليمان، فهذا هو شيخه المباشر الذي كان في حلقته وعلى كرسيه
بعدما توفي، والحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وعلي بن الأقمر
وزياد بن علاقة وسعيد بن مسروق الثوري والد سفيان وعدي بن ثابت الأنصاري وعطية بن
سعيد العوفي وأبي سفيان السعدي وعبد الكريم بن أبي أمية ويحيى بن سعيد الأنصاري من
صغار التابعين وهشام بن عروة وآخرين.
تلامذته: قال الحافظ: وعنه ابنه حماد
وإبراهيم بن طهمان وحمزة بن حبيب الزيات وزفر بن الهذيل وأبو يوسف القاضي وأبو يحيى
الحماني وعيسى بن يونس ووكيع ويزيد بن زريع وأسد بن عمرو البجلي
وغيرهم.
براعة
الإمام أبي حنيفة في الفقه
قال
يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة.
وقال علي
بن عاصم: لو وزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم.
وقال حفص بن غياث:
كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل.
وروي عن الأعمش أنه
سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت وأظنه بورك له في عمله.
لعله
في علمه، وهذه أيضاً شهادة من الأعمش وهو من الأئمة كما مر في الترجمة
السابقة.
وقال جرير: قال لي المغيرة: جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي
لو كان حياً لجالسه.
وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس.
وقال الشافعي:
الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
وقال الذهبي: الإمامة في الفقه ودقائقه
مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.
وفاة
الإمام أبي حنيفة
قال
الذهبي في العبر: روي أن المنصور سقاه السم فمات شهيداً رحمه الله.
وقال
الهيثمي: روى جماعة أنه رفع إليه قدح فيه سم ليشرب فامتنع، وقال: إني لأعلم ما فيه،
ولا أعين على قتل نفسي، فطرح ثم صب في فيه قهراً فمات.
وقيل: إن ذلك كان بحضرة
المنصور، وصح أنه لما أحس بالموت سجد وخرجت نفسه وهو ساجد.
وقيل: الامتناع عن
القضاء لا يوجب للمنصور أن يقتله هذه القتلة الشنيعة، وإنما السبب في ذلك أن بعض
أعداء أبي حنيفة دس إلى المنصور أن أبا حنيفة هو الذي أثار عليه إبراهيم بن عبد
الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم الخارج عليه بالبصرة، فخاف خوفاً
شديداً ولم يقر له قرار، وأنه قواه بمال كثير، فخشي المنصور من ميله إلى إبراهيم؛
لأنه -أعني: أبا حنيفة - كان وجيهاً ذا مال واسع التجارة، فطلبه لبغداد ولم يجسر
على قتله بغير سبب، فطلب منه القضاء مع علمه بأنه لا يقبله ليتوصل بذلك إلى
قتله.
واتفقوا على أنه رحمه الله مات سنة (150) عن (70) سنة.
قال كثيرون:
وكان موته في رجب، وقيل: شعبان، وقيل: نصف شوال، ولم يخلف غير ولده حماد فرحمه الله
عز وجل رحمة واسعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك
على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.