الإمام الأوزاعي
الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى من أئمة أتباع التابعين، ومن علماء الشام الغر الميامين، جمع بين العلم والأدب، والعبادة والخشية، وعدم المداهنة للخلق، فلذلك هابه الملوك والسلاطين، فما أحوج العلماء والدعاة وطلاب العلم إلى معرفة سيرته والانتفاع بها!
بين يدي ترجمة الإمام الأوزاعي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فما زلنا بحمد الله تعالى سعداء بصحبة الركب المبارك أعلام السلف، وعالمنا وعلمنا في هذه الترجمة إمام مبارك من أئمة أتباع التابعين، ومن علماء الشام الغر الميامين، جمع العلم والأدب، والعبادة والخشية، فكان لا يهاب الملوك الجبابرة، وتهابه الملوك لقوته في الحق، وعدم مداهنته للخلق، فما أحوج الطلاب والعلماء إلى معرفة سيرته والانتفاع ببركته، ونكتفي في هذه المقدمة بما ذكره الحافظ الذهبي في سيره عن العباس بن الوليد قال: فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء، كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر أمه، تنقله من بلد إلى بلد، وقد بلغ حكمك فيه أن بلغته حيث رأيته.
يا بني! عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعت كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه.
يعني: ما تكلم بكلمة خير إلا احتاج من يستمع إليها إلى إثباتها.
ثم قال: ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلباً لم يبك.
فرحم الله الأوزاعي وسائر أئمة المسلمين، وجمعنا بهم في عليين، والحمد لله رب العالمين.
التعريف بالإمام الأوزاعي وذكر صفاته
اسمه: عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الشامي الأوزاعي.
مولده: قال أبو مسهر وجماعة: ولد سنة (88) هـ.
يعني: بعد أبي حنيفة بثمان سنين.
وعن ضمرة قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنت محتلماً أو شبيهاً بالمحتلم في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وقال الوليد بن مزيد: مولده ببعلبك ومنشؤه بالكرك.
قال الذهبي: كان يسكن عجلة الأوزاع، وهي العقبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق، ثم تحول إلى بيروت مرابطاً بها إلى أن مات.
صفته: قال محمد بن عبد الرحمن السلمي: رأيت الأوزاعي فوق الربعة، خفيف اللحم، به سمرة، يخضب بالحناء.
ثناء العلماء على الإمام الأوزاعي
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد.
يعني: هؤلاء أئمة زمانهم، الأوزاعي بالشام، ومالك بالمدينة، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن زيد بالبصرة، وكان يمكن أن يضيف سفيان بن عيينة في مكة، وابن المبارك أيضاً بخرسان.
وعنه قال: ما كان في الشام أحد أعلم بالنسب من الأوزاعي.
وعن عثمان بن سعيد الدارمي قال: سألت يحيى بن معين عن الأوزاعي ما حاله في الزهري؟ قال: ثقة، ما أقل ما روى عن الزهري.
يعني: رواياته عن الزهري قليلة؛ لأنه من نفس الطبقة، من طبقة كبار أتباع التابعين، والذين رووا عن الإمام الزهري من صغار التابعين، وكان أعلم أهل زمانه.
وعن سفيان بن عيينة قال: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه.
وقال محمد بن سعد: وكان ثقة مأموناً صدوقاً فاضلاً خيراً، كثير الحديث والعلم والفقه، حجة.
وقال إسماعيل بن عياش: سمعت الناس في سنة (140) هـ يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.
وعن محمد بن شعيب قال: قلت لـ أمية بن يزيد: أين الأوزاعي من مكحول؟ قال: هو عندنا أرفع من مكحول.
قال الذهبي: بلا ريب هو أوسع دائرة في العلم من مكحول.
وقال الخريبي: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه.
وعن الوليد بن مسلم قال: ما كنت أحرص على السماع من الأوزاعي حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام والأوزاعي إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله! عمن أحمل العلم؟ قال: عن هذا، وأشار إلى الأوزاعي.
قال الذهبي: كان الأوزاعي كبير الشأن وقال إسحاق بن راهويه: إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة.
لقد كان الإمام الذهبي مؤرخاً، لكنه لم يكن مؤرخاً حاطب ليل يجمع أي أخبار، ولكن كان يعلق أحياناً ويعترض أحياناً على ما لا يوافق الحق، فعلق على هذه الكلمة (فهو سنة) فقال الذهبي: بل السنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والإجماع ما اجتمع عليه علماء الأمة قديماً وحديثاً إجماعاً ظنياً أو سكوتياً، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم بقول باجتهاد احتمل له، فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفاً للإجماع ولا للسنة، كما كان الإمام مالك يعتبر إجماع أهل المدينة حجة.
وكان يقول: إن المدينة هي مدينة العلم وفيها أبناء المهاجرين والأنصار، فلا شك أن الحديث الذي ليس له أصل في الحجاز كما يقولون انقطع نخاعه، لا بد أن يكون له أصل في الحجاز، ولكن العلماء بعد الإمام مالك اعترضوا على ذلك، ولم يوافقوه على إن إجماع أهل المدينة حجة؛ لأن هذا ليس عليه دليل شرعي؛ والعلماء تفرقوا في الأمصار، والإجماع هو إجماع سائر الأئمة المجتهدين في عصر من العصور.
فلا شك أنه كان في خارج المدينة علماء مجتهدون، فلا يعتبر إجماع أهل المدينة أو أي بلد من بلاد المسلمين حجة.
كذلك يعترض هنا الإمام الذهبي على أن اجتماع الثوري والأوزاعي ومالك سنة فيقول: إن السنة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وأيضاً هذا لا يعتبر إجماعاً؛ لأن الإجماع ما اجتمع عليه علماء الأمة قديماً وحديثاً، إجماعاً ظنياً أو سكوتياً، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم بقول باجتهاد احتمل له.
والذي يخالف الإجماع يكون شاذاً.
يقول: فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفاً للإجماع ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالباً.
كما نقول اليوم: لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق عليه أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها، فهذا على سبيل الغالب.
يعني: لو اجتمع هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم إسحاق وهم أئمة زمانهم فغالباً يكون هو الحق.
ومن غرائب ما انفرد به الأوزاعي: أن الفخذ ليست في الحمام عورة، وأنها في المسجد عورة.
وله مسائل كثيرة حسنة ينفرد بها، وهي موجودة في الكتب
عبادة الأوزاعي رحمه الله
قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحداً أشد اجتهاداً من الأوزاعي في العبادة.
وقال غيره: حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة.
من السنة التنفل في الراحلة في السيارة في السفينة على الدابة، يقول: حج فما نام على الراحلة إنما هو في صلاة، يعني: كان إذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.
وعن الوليد بن مزيد قال: كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوى عليه، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي.
وقال مروان الطاطري: قال: الأوزاعي من أطال قيام الليل هون الله عليه وقوف يوم القيامة.
وقال الوليد بن مسلم من علماء الشام: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله والفقه في دينه.
خشية الأوزاعي رحمه الله
عن بشر بن المنذر قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
وعن أبي مسهر قال: ما رئي الأوزاعي باكياً قط، ولا ضاحكاً حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يتبسم أحياناً كما روي في الحديث، وكان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء.
وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموعه في الليل.
وقال بعضهم: ما رئي الأوزاعي ضاحكاً مقهقهاً قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط، وكان إذا خلا بكى حتى يرحم.
يعني: كان أمام الناس لا يبكي، ولكن إذا كان وحده بكى حتى يرحم.