الإمام الزهري
الإمام الزهري إمام علم من أئمة أهل الحديث، وممن حمل علوم الشريعة الغراء على خير وجه، قال عنه بعضهم أنه أول من دون العلم وكتبه، وكان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار.
بين يدي ترجمة الزهري رحمه الله تعالى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فما زلنا -بحمد الله- في صحبة العلماء الكرام من أئمة الدين، والعلماء العاملين في هذه السلسلة المباركة من أعلام السلف.
وهذه الجولة مع إمام من أئمة الحديث، من صغار التابعين، انتهت إليه رئاسة الحديث، إنه شيخ مالك والليث وابن أبي ذئب والسفيانين وغيرهم من أئمة أتباع التابعين.
إنه الإمام الزهري، وناهيك به علماً وفضلاً وشرفاً! قال أبو نعيم رحمه الله: ومنهم العالم السوي، والراوي الروي: أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، كان ذا عز وسناء، وفخر وسخاء.
لازم سعيد بن المسيب سيد التابعين، ومست ركبته ركبته ثمان سنين، وتردد على عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والقاسم بن محمد وغيرهم من أئمة التابعين، وكان آية في الحفظ والذكاء، فنهل من علومهم، حتى قال له سعيد بن المسيب: من مات وترك مثلك لم يمت.
ساق الله عز وجل له أسباب الشرف والعز في الدنيا والآخرة، فكان كثير المال، عظيم السخاء، له رتبة وشرف في دولة بني أمية، وكان أول من دون الحديث بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان يتردد بين الشام والحجاز.
قال أبو بكر الذهلي: قد جالست الحسن وابن سيرين فما رأيت أحداً أعظم منه.
يعني: الزهري.
والحسن وابن سيرين أعلى منه طبقة وأكبر منه سناً، ولكن العلم منايح، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
نسب الزهري ومولده وصفته
اسمه ومولده وصفته: اسمه: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام العلم، حافظ زمانه، أبو بكر القرشي الزهري المدني، نزيل الشام.
مولده: قال دحيم وأحمد بن صالح: في سنة خمسين.
وقال خليفة بن خياط: في سنة إحدى وخمسين.
صفته: قال محمد بن يحيى بن أبي عمرو عن سفيان: رأيت الزهري أحمر الرأس واللحية، وفي حمرتهما انكفاءً قليلاً، كأنه يجعل فيها كتماً، أي: كأنه يصبغ بالحناء وفيه كتم.
قال: وكان الزهري أعيمش وعليه جميمة.
وعن يعقوب بن عبد الرحمن قال: رأيت الزهري قصيراً، قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين.
قال الذهبي: كان رحمه الله محتشماً جليلاً بزي الأجناد، له صولة كبيرة في دولة بني أمية.
وقال محمد بن إشكاب: كان الزهري جندياً.
قال الذهبي: كان برتبة أمير.
ثناء العلماء على الزهري رحمه الله تعالى
ثناء العلماء عليه: عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت أحداً أبصر للحديث من ابن شهاب.
وقال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: هل تأتون ابن شهاب؟ قالوا: إنا لنفعل.
قال: فأتوه فإنه لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه.
فهو حصل علم فقهاء المدينة السبعة، ثم لقن هذا العلم الجليل لأئمة أتباع التابعين كـ مالك والسفيانين والليث بن سعد وغيرهم.
وقال محمد بن عبد الملك في حديثه: والحسن وضرباؤه يومئذ أحياء.
يعني: أن عمر بن عبد العزيز قال هذا القول وكبار التابعين كـ الحسن وابن سيرين أحياء.
وعن الليث قال: ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري، يحدث في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كذلك.
وعن الدراوردي قال: أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب.
وقال أحمد بن حنبل: الزهري أحسن الناس حديثاً وأجود الناس إسناداً.
وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس: الزهري.
وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: ما رئي أحد جمع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جمع ابن شهاب.
فكأن أكثر واحد جمع السنة ابن شهاب؛ لأنه حصل علم كبار التابعين، إضافة إلى أنه أدرك بعض الصحابة كـ أنس بن مالك، وكان شيخ من بعده من أئمة أتباع التابعين.
وقيل لـ مكحول: من أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب.
قيل: ثم من؟ قال: ابن شهاب.
قيل: ثم من؟ قال: ابن شهاب.
كأن ليس هناك أحد يدانيه.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: أدرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الرحمن بن أزهر ومحمود بن الربيع الأنصاري، وروى عن عبد الله بن عمر نحواً من ثلاثة أحاديث، وروى عن السائب بن يزيد.
وقال أبو بكر بن منجويه: رأى عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، وكان فقيهاً فاضلاً.
وعن جعفر بن ربيعة قال: قلت لـ عراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أفقههم فقهاً وأعلمهم بما مضى من أمر الناس سعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثاً فـ عروة بن الزبير، ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بن عبد الله - أي: ابن عتبة بن مسعود - بحراً إلا فجرته.
قال عراك: فأعلمهم عندي جميعاً ابن شهاب، فإنه جمع علمهم جميعاً إلى علمه.
وعن يونس عن ابن شهاب قال: قال لي سعيد بن المسيب: ما مات رجل ترك مثلك.
أي: كأن سعيد بن المسيب ترك نسخة أخرى لما عنده من العلم.
أسباب تفوق الزهري في العلم
أسباب تفوقه في العلم: قوة حفظه، وكتابته كل ما يسمع، ومدارسته العلم ومذاكرته، وملازمته أهل العلم وخدمتهم والقرب منهم وتوقيرهم، والأخذ بالأسباب التي تساعد على الحفظ؛ وتجنب ما يؤدي إلى النسيان.
ونذكر ذلك بشيء من التفصيل:
السبب الأول: قوة حفظه
قال الذهبي: ومن حفظ الزهري أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة.
روى ذلك عنه ابن أخيه محمد بن عبد الله.
وعن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري قال: ما استعدت حديثاً قط -أي: ما طلب إعادة حديث؛ لأنه كان يحفظ من أول مرة- وما شككت في حديث إلا حديثاً واحداً، فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت.
وعن الليث قال: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته.
السبب الثاني: كتابته كل ما يسمع
عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كنت أطوف أنا وابن شهاب، ومع ابن شهاب الألواح والصحف.
قال: وكنا نضحك به.
وفي رواية: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس.
وعن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كان ابن شهاب يختلف إلى الأعرج، وكان الأعرج يكتب المصاحف فيسأله عن الحديث، ثم يأخذ قطعة ورقة، فيكتب فيها ثم يتحفظ، فإذا حفظ الحديث مزق الرقعة.
وعن صالح بن كيسان قال: كنت أطلب العلم أنا والزهري، قال: فقال: نكتب السنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة.
قال: فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت.
أي: لم يقتصر على كتابة الأحاديث المرفوعة، ولكنه كتب أيضاً الوارد عن الصحابة.
السبب الثالث: مدارسته العلم ومذاكرته
عن الأوزاعي عن الزهري قال: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
وعن يعقوب بن عبد الرحمن: أن الزهري كان يكتب العلم عن عروة وغيره، فيأتي جارية له نائمة فيوقظها فيقول لها: حدثني فلان وفلان بكذا، فتقول: ما لي ولهذا؟ فيقول: قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعت الآن فأردت أن أستذكره.
يعني: أنه كان يوقظ الجارية ويخبرها بالحديث الذي حفظه فيقول لها: حدثني فلان وفلان بكذا، فتقول: ما لي ولهذا؟ فيقول: قد علمت أنكِ لا تنتفعين به؛ ولكن سمعته فأردت أن أستذكره.
فكأنه عندما لا يجد أحداً يذاكره الحديث كان يوقظ جاريته ويذاكرها أو يحدثها بالحديث