الإمام الشعبي
الإمام الشعبي رحمه الله تعالى من أئمة التابعين، وكان فقيهاً عالماً بالسنة وبالمغازي، متورعاً عن الفتوى ذاماً للرأي، أخذ عن الصحابة رضي الله عنهم، وبلغ في العلم والدين منزلة رفيعة، فرحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
بين يدي ترجمة الشعبي
عالمنا في هذه الحلقة من السلسلة المباركة نحيف الجسم، عظيم القدر، جبل من جبال العلم، وإمام من أئمة التابعين، أدرك ما يقرب من خمسين صحابياً، وكانت له حلقة عظيمة في وجود أكابر الصحابة رضي الله عنهم، رآه ابن عمر رضي الله عنهما فقال: كأنه قد شاهد معنا، ذو دعابة وذكاء، يرغب الملوك في قربه، ويحتاج الجميع إلى علمه، أرسله عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فتعجب الملك لماذا لم يؤمره العرب عليهم؟ وهذه القصة ذكرها الذهبي في سيره عن ابن عائشة قال: وجه عبد الملك بن مروان الشعبي رسولاً إلى ملك الروم، فلما انصرف من عنده قال: يا شعبي! أتدري ما كتب به إلي ملك الروم؟ قال: وما كتب يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتعجب لأهل ديانتك كيف لم يستخلفوا عليهم رسولك.
قلت: يا أمير المؤمنين؛ لأنه رآني ولم يرك.
وهذا من ذكائه رحمه الله تعالى.
حفظ الإمام الشعبي ونباهة خاطره وسعة علمه
حفظه ونباهة خاطره وسعة علمه: عن ابن شبرمة قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني أحد قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي.
وعنه عن الشعبي قال: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاً يحدث بحديث إلا أنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً.
وعن وادع الراسبي عن الشعبي قال: ما أروي شيئاً أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد.
وعن أبي مجلز قال: ما رأيت فقيهاً أفقه من الشعبي.
وقال مكحول: ما رأيت أعلم بسنة ماضية من الشعبي.
وقال داود بن أبي هند: ما جالست أحداً أعلم من الشعبي.
وعن عبد الملك بن عمير قال: مر ابن عمر بـ الشعبي وهو يقرأ المغازي، فقال: كأنه كان شاهداً معنا، ولهو أحفظ لها مني وأعلم.
وقال عاصم الأحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي.
فهذه قمم شامخة في سماء المجد، وأئمة في العلم يجهلها أكثر الناس، ومن فوائد دراسة هذه التراجم أن نتعرف على هؤلاء الأعلام حتى نتقرب إلى الله عز وجل بحبهم.
تورع الإمام الشعبي عن الفتوى وذمه الرأي
تورعه عن الفتوى وذمه للرأي: عن محمد بن جحادة أن عامراً الشعبي سئل عن شيء فلم يكن عنده فيه شيء، فقيل له: قل برأيك.
فقال: وما تصنع برأيي؟ بل على رأيي.
وعن آدم: أن رجلاً سأل إبراهيم -أي النخعي - عن مسألة فقال: لا أدري.
فمر عليه عامر الشعبي فقال للرجل: سل ذاك الشيخ، ثم ارجع فأخبرني، فرجع إليه فقال: قال: لا أدري.
قال إبراهيم: هذا والله الفقه.
وبعض الإخوة الذين سجّلوا للشيخ ابن باز رحمه الله وقد سئل عن راوٍ فقال: لا أدري.
فأراد مسجّل البرنامج أن يحذف هذه الكلمة، يظن أن في هذا رفعاً لشأن الشيخ، فأصر الشيخ ابن باز رحمه الله على أن تبقى هذه الكلمة في البرنامج.
وقالوا: كان لها أثر عظيم جداً، وهذا موافق لما يقوله العلماء: ينبغي للعالم أن يورث تلامذته: لا أدري.
أي: يُكثر منها حتى تُحمل عنه؛ لأنه إذا تجرأ على الشرع وأفتى بعلمه فإن هذا يكون من باب طلب الشرف بالدين، فهو يستحي أن يقول: لا أدري، فيتجرأ على شرع الله عز وجل ويقول بلا علم.
وعن مالك بن مغول عن الشعبي قال: لو كانت الشيعة من الطير كانوا رخماً، ولو كانوا من الدواب كانوا حمراً.
وعن الوصافي عن عامر الشعبي قال: أحب صالح المؤمنين، وصالح بني هاشم، ولا تكن شيعياً، وارج ما لم تعلم ولا تكن مرجئاً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل بالخير وإن كان أخرم سندياً.
وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان الشعبي صاحب آثار، وكان إبراهيم النخعي صاحب قياس.
وعن مجالد قال: وكان الشعبي يذم الرأي ويفتي بالنص.
قال مجالد: سمعت الشعبي يقول: لعن الله رأيت.
وعن الهذلي قال: قال الشعبي: أرأيتم لو قُتل الأحنف بن قيس وقُتل طفل أكانت ديتهما سواء، أم يفضّل الأحنف لعقله وعلمه؟ قلت: سواء.
قال: فليس القياس بشيء.
وعن ابن أبجر قال: قال الشعبي: ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم فخذه، وما قالوا برأيهم فبل عليه.
وعن صالح بن مسلم قال: قال عامر الشعبي: إنما هلكتم أنكم تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.
وعن الشعبي قال: لا أدري نصف العلم.
قصة خروج الإمام الشعبي مع القراء على الحجاج واعتذاره إليه
قصة خروجه مع القراء على الحجاج واعتذاره إليه: قال الذهبي: خرج القراء وهم أهل القرآن والصلاح بالعراق على الحجاج لظلمه، وتأخير الصلاة، والجمع في الحضر، وكان ذلك مذهباً واهياً لبني أمية، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون عليكم أمراء يميتون الصلاة)، فخرج على الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي وكان شريفاً مطاعاً، وجدته أخت الصديق فالتف على مائة ألف أو يزيدون، وضاقت على الحجاج الدنيا، وكاد أن يزول ملكه، وهزموه مرات، وعاين التلف وهو ثابت مقدام إلى أن انتصر وتمزق جمع ابن الأشعث، وقُتل خلق كثير من الفريقين، فكان من ظفر به الحجاج منهم قتله إلا من باء منهم الكفر على نفسه فيدعه.
عن مجالد عن الشعبي قال: لما قدم الحجاج سألني عن أشياء من العلم فوجدني بها عارفاً، فجعلني عرّيفاً على قومي الشعبيين ومنكباً -يعني رأساً- على جميع همدان، وفرض لي، فلم أزل عنده بأحسن منزلة، حتى كان شأن عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قراء أهل الكوفة فقالوا: يا أبا عمرو إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم، فقمت بين الصفين أذكر الحجاج وأعيبه بأشياء، فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الخبيث؟ أما لئن أمكنني الله منه لأجعلن الدنيا عليه أضيق من مسك جمل -يعني: جلد جمل-، قال: فما لبثنا أن هزمنا فجئت إلى بيتي وأغلقت علي، فمكثت تسعة أشهر، فنُدب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم فقال: أنا لها، فعُقد له على خراسان، فنادى مناديه من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن، فاشترى مولى لي حماراً وزودني، ثم خرجت فكنت في العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فرغانة -وهي مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان- فجلست ذات يوم وقد برق -أي: تحيّر قتيبة بن مسلم - فنظرت إليه فقلت: أيها الأمير عندي علم ما تريد، فقال: من أنت؟ قلت: أعيذك ألا تسأل عن ذلك، فعرف أني ممن يخفي نفسه، فدعا بكتاب فقال: اكتب نسخة، قلت: لا تحتاج إلى ذلك، فجعلت أملي عليه وهو ينظر حتى فرغ من كتاب الفتح.
قال: فحملني على بغلة -يعني: أعطاه بغلة- وأرسل إلي بسرق من حرير، وكنت عنده بأحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه إذا أنا برسول الحجاج بكتاب فيه: إذا نظرت إلى كتابي هذا فإن صاحب كتابك عامر الشعبي، فإن فاتك قطعت يدك على رجلك وعزلتك.
قال: فالتفت إلي وقال: ما عرفتك قبل الساعة، فاذهب حيث شئت من الأرض.
فهو أراد أن يخفي أمره، وطلب من الشعبي أن يختفي وكأنه ما رآه.
ثم قال: فوالله لأحلفن له بكل يمين، فقلت: أيها الأمير! إن مثلي لا يخفى.
فقال: أنت أعلم.
قال: فبعثني إليه وقال: إذا وصلتم إلى خضراء واسط فقيدوه ثم أدخلوه على الحجاج، فلما دنوت من واسط استقبلني ابن أبي مسلم فقال: يا أبا عمرو! إني لأضن بك عن القتل، إذا دخلت على الأمير فقل كذا وكذا، فلما أُدخلت عليه ورآني قال: لا مرحباً ولا أهلاً، جئتني ولست في الشرف من قومك ولا عريفاً، فقلت: وفعلت، ثم خرجت علي وأنا ساكت.
فقال: تكلم؟ فقلت: أصلح الله الأمير، كل ما قلته حق، ولكنا قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلسنا الخوف، ولم نكن في ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي، واستقبلت بي التوبة.
قال: قد فعلت ذلك.
يعني: هو عرّض بكلام وما قال باطلاً، فهو نوع من المداراة، وليس من المداهنة، لأن المداراة لا تكون على حساب الحق أو الشرع، فقال له: اكتحلنا بعدك السهر، وتحلسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي.
وعن عبادة بن موسى عن الشعبي قال: أُتي بي الحجاج موثقاً، فلما انتهيت إلى باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم فقال: إنا لله يا شعبي لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم الشفاعة، بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، فبالحري أن تنجو.
ولقيني محمد بن الحجاج وقال لي مثل مقالة يزيد.
فلما دخلت عليه قال: وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر! فقلت: أصلح الله الأمير أحزن بنا المنزل -يعني: ضاق- وأجدب بنا الجناب، وضاق المسلك، واكتحلني السهر، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء.
قَال: صدق والله ما بروا في خروجهم علينا، ولا قووا علينا حيث فجروا، فأطلقوا عنه.
قال: فاحتاج إلي في فريضة -أي: مسألة من المواريث- فقال: ما تقول في أخت وأم وجد؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان بن عفان و
شيوخ الإمام الشعبي وتلاميذه
شيوخه وتلامذته رحمه الله: قال الحافظ: روى عن علي وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وزيد بن ثابت وقيس بن سعد بن عبادة وقرظة بن كعب وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأبي مسعود الأنصاري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وغيرهم.
ومن التابعين الذين روى عنهم: الحارث الأعور وخارجة بن الصلت وزر بن حبيش وسفيان بن الليل.
تلامذته: قال الحافظ: وعنه: أبو إسحاق السبيعي وسعيد بن عمرو بن أشوع وإسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وأشعث بن سوار وتوبة العنبري وغيرهم.
من أقوال الشعبي رحمه الله
من أقواله رحمه الله: قال أبو الحسن المدائني في كتاب الحكمة: قيل للشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟ قال: بنفي الاغتمام، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمام، وبكور كبكور الغراب.
وعن ابن شبرمة عن الشعبي قال: إنما سمي هوى؛ لأنه يهوي بأصحابه.
وعن أبي الجابية الفراء قال: قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء، ولكنا سمعنا الحديث فروينا، ولكن الفقيه من إذا علم عمل.
وعن مالك بن مغول قال: قيل للشعبي: أيها العالِم، فقال: العالِم من يخاف الله.
وعن أبي إسحاق عن الشعبي قال: ما ترك أحد في الدنيا شيئاً لله إلا أعطاه الله في الآخرة ما هو خير له.
وعن مجالد عن الشعبي قال: تعايش الناس بالدين زمناً طويلاً حتى ذهب الدين، ثم تعايش الناس بالمروءة زمناً طويلاً حتى ذهبت المروءة، ثم تعايش الناس بالحياء زمناً طويلاً حتى ذهب الحياء، ثم تعايش الناس بالرغبة والرهبة، وأظن أنه سيأتي بعد هذا ما هو أشد منه.
وعن ابن عياش عن الشعبي قال: كانت العرب تقول: إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساويه فذلكم الرجل الكامل، وإذا كانا متقاربين فذلكم المتماسك، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك.
وعن مجالد عن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينها تبكي، فقلت: يا أبا أمية ما أظنها إلا مظلومة، فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
أي: البكاء ليس دليلاً على الصدق.
قال عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي: إنما كان يطلب هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل والنسك -يعني: العبادة-، فإن كان ناسكاً ولم يكن عاقلاً قال: هذا أمر لا يناله إلا العقلاء فلم يطلبه، وإن كان عاقلاً ولم يكن ناسكاً قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك فلم يطلبه، قال الشعبي: ولقد رهبت أن يكون من يطلبه اليوم من ليست فيه واحدة منهما لا عقل ولا نسك.
وعن محمد بن بشر أو بشير قال: قال الشعبي: اتقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبدين؛ فإنهما آفة كل مفتون.
وعن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: الرجال ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فأما الرجل التام هو الذي له رأي وهو يستشير، وأما نصف الرجل فالذي ليس له رأي وهو يستشير، وأما الذي لا شيء فالذي ليس له رأي ولا يستشير.
وعن مجالد عن الشعبي قال: العلم أكثر من أن يُحصى فخذ من كل شيء أحسنه.
وقال أيضاً عنه: ليس حسن الجوار أن تكف أذاك عن الجار، ولكن حسن الجوار أن تصبر على أذى الجار.
كما في حديث (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها).
وفاة الإمام الشعبي
وفاته رحمه الله: قال الهيثم بن عدي ويحيى بن بكير: مات سنة (103هـ).
زاد يحيى: وسنه (79) سنة.
وقال يحيى بن معين وغيره: مات سنة (104هـ).
وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد القطان: مات قبل الحسن بيسير، ومات الحسن سنة (110هـ) بلا خلاف، فرحمه الله رحمة واسعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.