الإمام ابن سيرين
الإمام ابن سيرين علم من أعلام السلف، وإمام في الورع، كان ثقة مأموناً عالماً فقيهاً إماماً، عالماً بتفسير الرؤيا، وكان شديداً على أهل البدع والأهواء، منكراً على السلاطين، فبمثل هذا الإمام يقتدى، وبمحاسنه وأخلاقه يؤتسى، فهو من مصابيح الدجى ومنارات الهدى.
بين يدي ترجمة الإمام ابن سيرين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فمع علم من أعلام السلف الكرام من علماء التابعين الأعلام وهو محمد بن سيرين إمام في الورع وتأويل الرؤيا.
قال أبو نعيم: ومنهم ذو العقل الرصين والورع المتين، المطعم للإخوان والزائرين، ومعظم الرجاء للمذنبين والموحدين أبو بكر محمد بن سيرين، كان ذا ورع وأمانة، وحيطة وصيانة، كان بالليل بكَّاءً نائحاً، وبالنهار سائحاً بساماً، يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وقال محمد بن جرير الطبري: كان ابن سيرين فقيهاً عالماً ورعاً أديباً كثير الحديث، شهد له أهل العلم والفضل بذلك، وهو حجة.
اجتمعت في هذا الإمام خلال من فضل الكبير المتعال، جعلته من أكابر الرجال في الورع والاحتياط في الدين، والاجتهاد في طاعة رب العالمين، مع الديانة والصيانة وكثرة الرواية، ثم هو من بيت علم وفضل وكمال، فقد كان سابع سبعة من إخوته من ثقات التابعين، أُلهم في تأويل الرؤيا، وعلم من علم التعبير ما صار يضرب به المثل في هذا العلم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
فنسأل الله عز وجل أن ينفعنا بعلم هؤلاء الأكابر، ويجمعنا بهم في دار النعيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
التعريف بالإمام ابن سيرين وذكر صفته
اسمه: محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر بن أبي عمرة البصري، أخو أنس ومعبد وحفصة وكريمة ن مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه من سبي عين التمر، الذين أسرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه.
مولده: قال أنس بن سيرين: ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
قال الحاكم: هكذا وجدت في كتابي: عمر، وقال غيره: عثمان.
قال الذهبي: الثاني أشبه، ولو كان أولاهما الأول لكان ابن سيرين في سن الحسن، ومعلوم أن محمداً كان أصغر بسنوات، فالراجح أنه لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
صفته: عن يوسف بن عطية قال: رأيت ابن سيرين قصيراً، عظيم البطن، له وفرة - (وفرة).
يعني: شعر يصل إلى أذنيه- يفرق شعره، كثير المزاح والضحك، يخضب بالحناء.
ثناء العلماء على الإمام ابن سيرين
عن هشام بن حسان قال: حدثني أصدق من أدركت من البشر محمد بن سيرين.
وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأموناً عالماً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم ورعاً، وكان به صمم.
أي: ثقل في سمعه.
وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وهو من أروى الناس عن شريح وعبيدة السلماني، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله بن مسعود.
وإخوته: معبد ويحيى وأنس وحفصة أم الهذيل تابعون ثقاة.
وعن عمرو بن دينار قال: والله ما رأيت مثل طاوس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله.
وعن عثمان البتي قال: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين.
وعن شعيب بن الحبحاب قال: كان الشعبي يقول لنا: عليكم بذاك الأصم.
يعني: ابن سيرين.
وعن ابن عون قال: ثلاثة لم تر عيناي مثلهم: ابن سيرين بالعراق أو بالبصرة، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، كأنهم التقوا فتواصوا.
وعن ابن عون قال: كان محمد من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشد الناس إزراءً على نفسه.
وعن أم عبدان امرأة هشام بن حسان قالت: كنا نزولاً مع محمد بن سيرين في الدار، فكنا نسمع بكاءه بالليل، وضحكه بالنهار.
وعن ابن عوف عن محمد بن سيرين: أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وعن عبد الله بن السري قال: قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل علي به الدين ما هو؟ قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس، فحدثت به أبا سليمان الداراني، فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبكم فليس ندري من أين نؤتى.
أي: أن الإنسان إذا كانت ذنوبه قليلة ونزل به بلاء فإنه يعرف أنه بسبب ذنب كذا، أما من كان له في كل لحظة ذنب، وفي كل يوم عشرات الذنوب أو مئات الذنوب فلا يدري من أين يؤتى.
ورع الإمام ابن سيرين رحمه الله
قال الخطيب البغدادي: وكان محمد أحد الفقهاء من أهل البصرة، والمذكورين بالورع في وقته.
وعن مورق العجلي قال: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين.
وقال أبو قلابة: اصرفوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعاً، وأملككم لنفسه.
وعن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: لما حبس ابن سيرين في السجن قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال، فقال ابن سيرين: لا والله لا أعينك على خيانة السلطان.
وعن ابن عون قال: قال محمد في شيء راجعته فيه: إني لم أقل: ليس به بأس، وإنما قلت: لا أعلم به بأساً.
وعن جرير بن حازم قال: سمعت محمد بن سيرين يحدث رجلاً فقال: ما رأيت الرجل الأسود؟ ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبت الرجل.
وعن طلق بن وهب الطاحي قال: دخلت على محمد بن سيرين وقد كنت اشتكيت، فقال: ائتِ فلاناً فاستوصفه -يعني: اطلب منه وصفة أو علاجاً- فإنه حسن العلم بالطب، ثم قال: ولكن ائت فلاناً فإنه أعلم منه، ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبته.
والغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره.
والإنسان ينبغي له أن يستحضر ما يذكر به أخاه، فإن كان يكره ما يذكره به كان ذلك من الغيبة، فـ ابن سيرين رحمه الله بعدما قال: ائت فلاناً فاستوصفه فإنه حسن العلم بالطب، ثم قال: ولكن ائت فلاناً، فلو أن الأول سمع ذلك لكرهه.
وقال بكر بن عبد الله المزني: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين.
وعن يونس بن عبيد قال: لم يكن يعرض لـ محمد أمران في ذمته إلا أخذ بأوثقهما.
وعن عمارة بن مهران قال: كنا في جنازة حفصة بنت سيرين فوضعت الجنازة، ودخل محمد بن سيرين صهريجاً يتوضأ فقال الحسن: أين هو؟ قالوا: يتوضأ، صباً صباً، دلكاً دلكاً، عذاب على نفسه وعلى أهله.
وقال هشام بن حسان: كان محمد يتّجر فإذا ارتاب في شيء تركه.
وعن المدائني قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدين أنه اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فقال: الفأرة كانت بالمعصرة.
الفأرة وقعت في الزيت فماتت فتنجس الزيت، فصب الزيت كله.
وكان يقول: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت به، وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر فابتلي به.
وعن ميمون بن مهران قال: قدمت الكوفة وأنا أريد أن أشتري البز، فأتيت ابن سيرين بالكوفة فساومته، فجعل إذا باعني صنفاً من أصناف البز قال: هل رضيت؟ فأقول: نعم، فيعيد ذلك علي ثلاث مرات، ثم يدعو رجلين فيشهدهما، ولا يشتري ولا يبيع بهذه الدراهم الحجاجية -نسبة إلى الحجاج - فلما رأيت ورعه ما تركت شيئاً من حاجتي أجده عنده إلا اشتريته حتى لفائف البز.