الإمام مالك
الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وارث العلوم النبوية، قصده طلبة العلم من الآفاق وازدحموا عليه، كان عزيزاً في نفسه موقراً لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، محتاطاً في الرواية ومتحرياً في نقد الرجال، ورعاً في الفتوى ناصراً للسنة، وقد أثنى عليه العلماء ثناءً جميلاً رحمه الله تعالى.
بين يدي ترجمة الإمام مالك رحمه الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: ما زلنا نسعد بحمد الله تعالى مع سلسلة التراجم التربوية، وإمامنا وقدوتنا فيها هو إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وارث العلوم النبوية والسنن المصطفوية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الذهبي: قد كان هذا الإمام من الكبراء والسادة العلماء، ذا حشمة وتجمل وعبيد ودار فاخرة، ونعمة ظاهرة، ورفعة في الدنيا والآخرة، كان يقبل الهدايا، ويأكل طيباً، ويعمل صالحاً، وما أحسن قول ابن المبارك فيه: صموت إذا ما الصمت زين أهله وفتاق أبكار الكلام المختم وعى ما وعى القرآن من كل حكمة وسيطت له الآداب باللحم والدم وقال أبو مصعب: كانوا يزدحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزحام، وكنا نكون عنده فلا يكلم ذا ذا، ولا يلتفت ذا إلى ذا، والناس قائلون برءوسهم هكذا.
وكانت السلاطين تهابه وهم قابلون منه ومستمعون، وكان يقول: لا ونعم، ولا يقال له: من أين قلت هذا؟ وقال بعضهم: يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان والدارس لترجمة الإمام يقف على شيء من أسباب هذه الهيبة وهذا القبول، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في غضون الترجمة، فمن ذلك: أنه كان كثير التعظيم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد أن يحدث اغتسل وتطيب وسرح لحيته وجلس على منصة، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ، ومن أعز دين الله أعزه الله عز وجل، ومن نصر دين الله نصره الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40].
ومن ذلك: قوة حجته في نصر السنة وشدته على أهل الأهواء والبدعة.
ومن ذلك: احتياطه في الرواية نصرة للشريعة، فلا يروي إلا عن ثقة، ولا يروي إلا عمن عرف بالرواية وأنه من أهل الحديث، وهو الذي قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به.
قال ابن أبي حاتم: كان مالك رحمه الله أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنسك.
وأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح الكتب المصنفة في زمانه موطأ مالك كما أشار الشافعي رحمه الله، وذلك قبل تصنيف الصحيحين، وهو لم يجرد الصحيح كما فعل البخاري ومسلم، وأسانيده أنقى الأسانيد، وإن كان قد خلط الأسانيد المسندة ببعض البلاغات عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي إشارة إلى ذلك، والله عز وجل يغفر لنا وله، ويدخلنا وإياه جنة عالية، قطوفها دانية.
التعريف بالإمام مالك وذكر صفته
اسمه ومولده وصفته: اسمه: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث ذو أصبح الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة، وعداده في بني تيم بن مرة من قريش، حلفاء عثمان بن عبيد الله التيمي أخي طلحة بن عبيد الله.
مولده: قال الذهبي: مولد الإمام مالك على الأصح في سنة (93هـ) في السنة التي توفي فيها أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في صيانة ورفاهية وتجمل.
صفته: عن مطرف بن عبد الله قال: كان مالك بن أنس طويلاً عظيم الهامة أصلع أبيض الرأس واللحية، شديد البياض إلى الشقر.
وعن عيسى بن عمر المدني قال: ما رأيت بياضاً قط ولا حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياض ثوب من مالك.
وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أهيب من مالك، ولا أتم عقلاً ولا أشد تقوى.
طلب الإمام مالك للعلم وثناء العلماء عليه
ابتداء طلبه للعلم وثناء العلماء عليه: قال الذهبي: وطلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حيي شاب طري، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد إلى أن مات.
وعن عبد الله بن المبارك قال: ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة.
يعني: سريرة صالحة من حب الله عز وجل ومن الإخلاص.
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء.
وقد لمع نجم الإمام مالك في زمن كثرت فيه النجوم.
قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فـ مالك النجم.
وعن ابن عيينة قال: مالك عالم الحجاز وهو حجة زمانه.
وقال الذهبي: كان عالم المدينة في زمانه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيد بن ثابت وعائشة ثم ابن عمر ثم سعيد بن المسيب ثم الزهري ثم عبيد الله بن عمر ثم مالك.
وقال كذلك: لم يكن بالمدينة عالم بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم والفقه والجلادة والحفظ.
فقد كان فيها بعض العلماء مثل: سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وعكرمة ونافع ومن في طبقتهم، ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن في طبقتهم، فلما تفانوا اشتهر ذكر مالك بها، وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وفليح بن سليمان والدراوردي وأقرانهم، فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق.
وقال ابن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: الثوري ومالك والأوزاعي وحماد بن زيد.
وقال: ما رأيت أحداً أعقل من مالك.
قال الواقدي: كان مالك يجلس في منزله على ضجاع ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيت لمن يأتي.
وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان مهيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث بعد الحديث، وربما أذن لبعضهم فقرأ عليه، وكان له كاتب يقال له: حبيب قد نسخ كتبه ويقرأ للجماعة، فإذا أخطأ فتح عليه مالك وكان ذلك قليلاً.
وعن بقية قال: ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية منك يا مالك.